جامع السلطان حسن


جامع السلطان حسن بالقاهرة



إذا كان لمصر القديمة ان تفخر بأهرامها فان لمصر الإسلامية ان تتيه عجبا بمدرسة السلطان حسن التي وصفها الورثيلانى الرحالة المغربى بأنها مسجد لا ثاني له في مصر ولا في غيرها من البلاد في فخامة البناء ونباهته.



وقد أمر ببناء هذا الصرح المعماري السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون ، احد ابرز سلاطين دولة المماليك البحرية بمصر والشام ، وكان ابتداء العمل فى بنيانه عام 757 هـ (1356 م) واستمر العمل جاريا في المدرسة إلى ان قتل السلطان على ايدى بعض أمراء المماليك ممن كانوا في صحبته فى رحلة صيد فى سنة 762 هـ (1360 م) فلم تكمل بعض أعمال الزخرفة فيها إلى يومنا هذا.
وكان في موضع هذه المدرسة القصر الذي شاده الناصر محمد بن قلاوون لسكنى الأمير يلبغا اليحياوى فأمر السلطان حسن بهدمه لتوفير المساحة الكافية لاستيعاب وحدات مدرسته.


وتشغل مدرسة السلطان حسن مساحة قدرها 7906 مترا مربعا ولكنها من حيث الشكل تبدو متعددة الأضلاع ، إذ يبلغ طول اكبر الأضلاع 150 مترا وأطول عرض فيها 68 مترا ولها أربع واجهات تطل على ميدان القلعة وعلى الشوارع المؤدية إليه.
وقد استخدمت الأحجار المشذبة بشكل رئيسي في أعمال البناء بالإضافة إلى الرخام المتعدد الألوان والجص الشاهق البياض أيضا .



ويقع المدخل الرئيسي للمدرسة في الطرف الغربي للواجهة الشمالية وهو بحد ذاته طرفة أثرية يبلغ ارتفاعها 37.80 م وكان مقدرا للزخارف الحجرية والرخامية ان تحيط بالمدخل ولكن بعضها لم يستكمل بعد مقتل السلطان ويتوج المدخل بمجموعة كبيرة من المقرنصات الحجرية التي لا مثيل لها في تعقدها الهندسي.
ويؤدى الباب إلى مدخل مربع الشكل مكون من ثلاثة ايوانات مغطاة بمقرنصات ويتوسطها قبة ملبسة بالحجر الأحمر ، وبصدر هذا المدخل مسطبة حلى صدرها بالرخام الملون الملبس في الرخام الأبيض المرمرى.



ومن هذا المدخل يتوصل إلى سلم ذي خمس درجات فسيحة ، ويؤدى المدخل بدوره إلى دهليز معقود ينثني على شكل زاوية قائمة إلى يسار الداخل لينتهي إلى صحن المدرسة المفروش بالرخام المتعدد الألوان.
ومن ناحية التصميم المعماري فان مدرسة السلطان حسن تنبع فى تصميمها نظام المدارس المملوكية المعروف باسم التخطيط المتعامد ، والذي يتألف من صحن أوسط مكشوف تتعامد عليه أربعة ايوانات أوسعها وأعمقها إيوان القبلة ويعنى بالإيوان في هذا الطراز المعماري مساحة محاطة بالجدران من ثلاث جهات بينما يفتح الضلع الرابع بكامل اتساعه على الصحن ويغطى الإيوان دوما بقبو هو في حقيقته ليس سوى عقد ممتد مبنى بالآجر الأحمر.
والصحن الأوسط في مدرسة السلطان حسن مستطيل الأبعاد (43.6م × 32م) ويتوسطه فوارة ماء أصبحت الآن ميضأة ، تعلوها قبة خشبية محمولة على ثمانية أعمدة رشيقة من الرخام الأبيض ، وقد سجلت بدائرة خوذة القبة من الداخل كتابات نسخية تحوى بين نقوشها آية الكرسي ويحيط بالصحن أربع مدارس للمذاهب السنية الاربعة هى المدرسة الشافعية والمدرسة الحنفية بالإضافة إلى المدرستين المالكية والحنبلية ، وخلف هذه المدرسة الأخيرة توجد مساكن الطلاب الموزعة على ثلاث طوابق ، وتطل نوافذ المساكن على الطريق العام.



أما الايوانات المحدقة بالصحن فاهمها بالطبع هو إيوان القبلة إلى تبلغ فتحته 19.20 م ، وبصدره المحراب البديع الذي كسيت حنيته وكذا تواشيح عقده بالرخام المتعدد الألوان والمذهب والمحلى بزخارف مورقة تتخللها رسوم عناقيد العنب.
ويجاور المحراب منبر من الرخام له باب من النحاس المفرع وبوسط الإيوان دكة مبلغ من الرخام يلفت النظر فيها تلبيس عمد الرخام الملون في نواحيها.
ويحيط بإيوان القبلة إفريز نادر من الجص مكتوب عليه بالخط الكوفي المزهر آيات من القرآن الكريم ويتخلل الكتابة زخارف دقيقة وقد غشيت الجدران الجانبية لإيوان القبلة بأشرطة من الرخام الملون إلى ارتفاع متر ونصف من أرضية الإيوان.
وبالجملة فان الإيوان بزخارفه الرخامية والجصية يعتبر آية من آيات الفن الجميل ويساعد الارتفاع الكبير لعقد الإيوان على تضخيم أصوات المؤذنين أو القراء في هذا الإيوان.



وخلف إيوان القبلة توجد القبة ويتم الوصول إليها عبر بابين يكتنفان المحراب احدهما ناحية الجنوب وهو مصفح بالنحاس الأصفر المكفت بالذهب وعليه اسم السلطان حسن والآخر فقد كسوته المعدنية التي يبدو إنها سلبت في القرن التاسع عشر بواسطة تجار العاديات.
وتجدر الإشارة هنا إلى ان هذه القبة ليست القبة الأصلية لهذه المدرسة ، والتي فقدت فيما يبدو بسبب نزاع عسكري نشب بين فرق الجند العثماني حدث خلالها تراشق مدفعى بين قلعة الجبل والمماليك المتحصنين بمدرسة السلطان حسن.
ومهما يكن من أمر ذلك فان لهذه القبة قاعدة مريعة طول كل ضلع من أضلاعها 21 مترا ويبلغ أقصى ارتفاع لخوذتها 48 مترا وذلك بعد تجديدها على يد الوالي العثماني إبراهيم باشا في عام 1082 هـ (1671م).
أما القبة الأصلية التي هدت فيظهر من كتابات الرحالة الأوربيين الذين زاروا مصر فى بدايات القرن الحادي عشر الهجري (17 م) إنها كانت أكثر ارتفاعا وكانت تشبه القباب السمرقندية ذات الرقبة الطويلة.



وبواسطة الجدار الشرقي لقاعدة القبة محراب من الرخام محلى بزخارف دقيقة ، أما الجدران فيها وزرة رخامية مرتفعة نحو ثمانية أمتار ويعلوها إفريز خشبي به كتابة بارزة تحوى آية الكرسي (من سورة البقرة) ثم النص التأسيسي للقبة وهو(وكان الفراغ من هذه القبة المباركة في شهور سنة أربع وستين وسبعمائة وصلى الله على محمد).
وبوسط حجرة هذه القبة تركيبة من الرخام كتب عليها إنها أنشئت سنة 786 هـ (1834 م) برسم تربة السلطان الشهيد الناصر حسن ، ولكن حقيقة الأمر ان السلطان لم يدفن فيها لان خصومه القوا بجثمانه فى النيل أما الذي دفن فيها فكان ابنه الشهاب احمد المتوفى عام 788 هـ (1386 م).
وقد أودع بهذه القبة كرسي المصحف المكون من حشوات سن وأبنوسى وأخشاب ثمينة دقت بالأويمة والحشوات جمعت على هيئة الطبق النجمى ذلك الابتكار الزخرفى الذي اشتهر به فن الزخرفة الإسلامية على عهد المماليك.
وكان المخطط للمدرسة ان تضم أربع مآذن ، فرغ بالفعل من تشييد ثلاث منها ، وان لم يبق منها سوى المئذنتان القائمتان اليوم على جانبي القبة بالواجهة الشرقية ، أما المئذنة الثالثة فكانت مشيدة على الكتف الأيمن للمدخل الرئيسي ولكنها سقطت لخلل معماري ناجم عن خطأ في حسابات ثقل أحجارها على قاعدة البناء وكان سقوطها سببا في وفاة بعض المارة في يوم السبت 6 ربيع الآخر سنة 762 هـ (1361 م) وعندئذ قرر السلطان حسن عدم بناء المئذنة الرابعة والتي كان من المقرر لها ان تحتل الكتف الأيسر للباب الرئيسي .


وتجدر الإشارة إلى ان بعض الأعمال الزخرفية وخاصة الرخامية قد أجريت بعد وفاة السلطان حسن وذلك على يدي الأمير بشير أغا الجمدار وان لم يكمل هو الآخر بدوره هذه الأعمال التي لو أنجزت لكانت جدران المدرسة بمثابة متحف لفن الزخرفة الإسلامية.
ونظرا لضخامة بناء المدرسة فقد كان المماليك المتمردون على حكامهم بقلعة الجبل المواجهة للمدرسة ، يتحصنون بمباني المدرسة وينصبون المدافع بأعالي المئذنتين لقصف القلعة بالقذائف وقد كتب لهم النصر غير مرة على المتحصنين بالقلعة.
وإذا كانت طلقات المدافع لم تفلح في النيل من مدرسة السلطان حسن فان عوامل عدة قد تضافرت على سلبها بعض نفائسها.



فقد سرقت بسطها الفاخرة في وقت غير معروف واستولى السلطان المؤيد شيخ المملوكي باب المدخل الرئيسي المصفح بالنحاس ونقله إلى مسجده القائم بقرب باب زويلة نظير ريع أحدى القرى بالقليوبية ونقل مع الباب أيضا بعض المشكاوات الزجاجية النفيسة وكانت كلها مموهة بالمينا المتعددة الألوان.
وفى القرن التاسع استولى تجار العاديات على بعض أبواب المدرسة الداخلية المكفتة بالذهب والفضة وقد آل احد هذه الأبواب بعد طول تطواف إلى السفارة الفرنسية بالجيزة وهو الآن يغلق على مدخل السفارة المواجه لحديقة الحيوان بالجيزة.
وقد عثر الأثرى حسن عبد الوهاب فى عام 1944 على اسم المهندس العبقري الذي اشرف على تصميم هذه المدرسة وبنائها وهو محمد بن بيليك المحسنى وهو من أولاد أمراء المماليك الذين قربهم السلطان حسن وسماهم المؤرخون بأولاد الناس ، وكل ما نعرفه عن هذا المهندس انه كان من أمراء الألوف وأولاد الناس ويبدو ان كونه من أولاد الناس قد دفعه إلى مصادقة السلطان الناصر حسن والارتباط به وليس من المستبعد ان يكون ابن بيليك قد انحاز الى جانب السلطان فى صراعه ضد الأمير يلبغا اليحياوى وهو الصراع الذي انتهى بقتل السلطان حسن وإلقاء جثته في النيل ، ويبدو ان صاحبنا المهندس قد قتل أيضا في خضم هذا الصراع أو تسحب واختفى عن العيون حيث لم يوقف له بعد ذلك على ترجمة أو تحديد لسنة وفاته ، وقد نجح المرحوم حسن عبد الوهاب في التوصل إلى اسم هذا المهندس عند قراءته لنص الطراز الجصى الذي تزدان به مدرسة الحنفية.




وقبل هذا الاكتشاف كان علماء الآثار الأوربيين يجهدون أنفسهم في البحث عن المهندس العبقري الذي قام بتصميم هذه المدرسة وبلغ الشطط بأحدهم وهو هرتس باشا حدا دفعه إلى القول بان المهندس بيزنطي مسيحي تلقى أصول الطراز المعمارية الإسلامية في احد البلاد السلجوقية مما مكنه من تصميم بناء فائق في بابه مثل جامع السلطان حسن.
وتنفرد هذه المدرسة بأكبر إيوان معقود في العمارة الإسلامية وهو إيوان القبلة وقد بلغت النفقة على القالب الذي شيد به عقد الإيوان المدبب حوالي 20 ألف دينار ذهبي ، كما تعتبر المقرنصات الحجرية للمدخل الرئيسي بها من الأمثلة النادرة في نوعها.
ولا جدال في ان البناء الضخم للمدرسة بمئذنتيها السامقتين في رشاقة ملفتة يعد معجزة معمارية ليس فقط بالقياس للتقنيات والامكانات التي كانت متاحة لابن بيليك المحسنى في العصور الوسطي ولكن أيضا لقدرة المدرسة على الصمود أمام القصف المدفعي لمماليك القلعة واستفزاز اهتمام زوجة محمد على باشا خوشيار هانم والدة الخديوي إسماعيل إذ حاولت هذه السيدة محاكاة هذا الصرح المعماري بإنشاء جامع الرفاعى في مواجهته ولكنه جاء دونه رونقا وجمالا رغما عن ان بناء الأخير استغرق قرابة عشرين عاما بينما شيد السلطان حسن هرمه المعماري هذا في نحو خمس سنوات لا أكثر.

ليست هناك تعليقات: